إنّ كذبةً كبيرةً أشاعها كثير من الناس؛ تلكم أنّ صراعاتٍ وأحقاداً كانت بين آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين أصحابه -رضي الله عنهم-، وهذه دعوى عريضة ادَّعاها بعض الناس على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آل بيته، ولكنها عند التحقيق العلميّ، والنظر الصحيح في أحوال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وآله تكذب وتبطل.
فمن ذلك ما جاء عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من رعايتهم لحق آل بيت النبي، فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- يقول: «ارقبوا محمداً - صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته»([20])، ويقول كذلك: «والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبّ إليّ من قرابتي»
([ رواه البخاري برقم بألفاظ متقاربة]).
وهذا عمر الفاروق -رضي الله عنه- لمّا كتب الديوان جيء إليه وقيل: يا أمير المؤمنين نبدأ بك، نجعل أول اسم في الديوان اسمك نبدأ بك، قال: «اكتبوا الناس على منازلهم»، فكتبوا، فبدأوا ببني هاشم، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه، على الخلافة، فلمّا نظر إليه عمر قال: «وددت أنه هكذا! ولكن ابدأوا بقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم- الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله»
([«طبقات ابن سعد» (ترجمة عمر -رضي الله عنه-) (3/275)، «الكامل في التاريخ» (2/331)، «المنتظم» لابن الجوزي (3/112).]).
وهذا الحبر البحر عبدالله بن العباس أبو العباس -رضي الله عنهما- جاء فأخذ بركاب زيد بن ثابت فقال له زيدٌ -رضي الله عنه-: «خلِّ عنك يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»، فقال ابن عباس -رضي الله عنه-: «هكذا يفعل بالعلماء، والكبراء».
ثم إنَّ زيد بن ثابت -رضي الله عنه- كافأ ابن عباس على أخذه بركابه أن قبَّل يده، وقال: «هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا -صلى الله عليه وسلم-» ([23]).
ويأتي أناس من العراق يسألون عبدالله بن عمر عن قتل الذباب للمحرم؛ فيقول لهم: «أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»([24]).
هكذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعظمون آل بيته، والعكس صحيح، فهذا رأس آل بيت النبي -صلوات الله وسلامه عليه- علي بن أبي طالب يسأله([25]) ابنه محمد: من خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول بملئ فيه: «أبو بكر»، قال له: ثم أنت، قال له: «ثم عمر»، قال: ثم أنت، قال: «إنما أنا رجل من المسلمين».
وقد نقل عن عليّ -رضي الله عنه- نقلاً كثيراً قيل إنه بلغ التواتر أنه قال على منبر الكوفة: «من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حدَّ المفتري»([26]).
ويحدّث -رضوان الله عليه- عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يحدث أهل الكوفة، يحدث شيعته يقول: «لقد رأيت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما رأيتُ أحداً منكم يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم، إذا ذكر الله همرت أعينهم، يميدون كما يميد الشجر في يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب، ورجاء الثواب».
وهذا حفيده علي بن الحسين -رضي الله تبارك وتعالى عنهم- علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يأتيه رجل فيقول له: إني لا أحبّ أبا بكر وعمر، فيقول له عليّ بن الحسين: «إنَّ الله -تبارك وتعالى- قال في كتابه العزيز: {للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من اللهِ ورِضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصّادقون} [الحشر:8] هل أنت من هؤلاء؟» قال: لا، لست من هؤلاء؛ لأنهم المهاجرون الذين ذكرهم الله-تبارك وتعالى- في كتابه، فيقول له: «ثم قال الله -تبارك وتعالى-:
{والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم يُحبُّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً ممّا أُوتوا ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يُوقَ شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر:9] هل أنت من هؤلاء؟» قال: لا، لست من هؤلاء، قال: «فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يقول: {والذين جاءُوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوفٌ رحيم} [الحشر:10] هل أنت من هؤلاء؟» قال: أرجو ذلك، قال: «ليس من هؤلاء من لم يحب هؤلاء».
نعم؛ هكذا كان ينظر آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا جعفر الصادق يفخر بـين الناس فيقول: «ولدني أبـو بكر مرتين»([27]): أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وجدته أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق.
وجاء سائل إلى جعفر الصادق اسمه سالم فقال له سائلاً: أتولى أبا بكر وعمر؟ قال: «نعم، تولهما» تولى أبا بكر وعمر، قال: أوتقول ذلك؟! قال: «ما لي لا أقول ذلك لا أنالني الله شفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- إن لم أقل ذلك، يا سالم: أبو بكرٍ جدي أيسبُّ الرجل جده؟»([28]).
هكذا كانوا -رضي الله عنهم وأرضاهم-، ولذلك حقَّ لنا أن نقول:
إني أحب أبا حفصٍ وشيعته
كما أحبّ عتيقاً صاحب الغار
وقد رضيت عليَّاً قدوة علماً
وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كلّ الصحابة ساداتي ومعتقدي
فهل عليّ بهـذا القـول من عار
لقد كانت بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع آل بيته مصاهرات كثيرة جدّاً.
فهذا سيِّد الخلق، وإمام أهل البيت: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج هاشميّة، بل تزوّج عائشة بنت أبي بكر، وتزوج حفصة، وتزوج أم حبيبة، وزوَّج عثمان رقية وأم كلثوم، وزوج العاص بن الربيع زينب.
وعلي -رضي الله عنه- تزوَّج أسماء بنت عميس أرملة أبي بكر الصديق، وزوج أم كلثوم ابنته وابنة فاطمة لعمر بن الخطاب، وزوج ابنته خديجة لعبدالرحمن بن عامر بن كريز، وزوج ابنته رملة لمعاوية بن مروان بن الحكم.
وهذا الحسن بن علي تزوج حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق، وتزوج أم إسحاق بنت طلحة بن عبيدالله، وزوج ابنته أم الحسين عبدالله بن الزبير، وزوج ابنته رقية لعمرو بن الزبير، وزوج ابنته مليكة لجعفر بن مصعب ابن الزبير.
والحسين بن علي تزوج أم إسحاق أرملة إسحاق بنت طلحة بن عبيدالله، وزوج ابنته فاطمة لعبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وزوَّج ابنته سكينة لمصعب بن الزبير.
فالمصاهرات بينهم كثيرة جداً؛ كما يبدو هذا من هاتيكم الأمثلة.
كذلك قد تسمّى أبناء الصحابة بأسماء آل البيت، وتسمّى أولاد آل البيت بأسماء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا علي سمّى أولاده: أبو بكر وعمر وعثمان.
والحسن سمى باسمِ (أبي بكر وعمر وطلحة).
والحسين سمى باسمِ (عمر).
وعقيل سمى باسمِ (عثمان).
وعبدالله بن جعفر سمى باسمِ (أبي بكر) ومعاوية.
وعلي بن الحسين سمى باسمِ (عمر).
وموسى الكاظم سمى باسمِ (عمر وعائشة).
وعلي الرضا سمى باسمِ (عائشة).
وعلي الهادي سمى باسمِ (عائشة).
هل بلغكم أنَّ اليهود والنصارى يسمون أولادهم باسم محمد؟! هل بلغكم أنّ مسلماً سمّى ولده اللات، أو العزى، أو فرعون؟! هل من عاقل يفعل ذلك؟!
إنّ الإنسان إنّما يسمي أولاده بأسماء من يحب، فما سموا أولادهم إلا بأسماء من يحبون، فرحم الله -تبارك وتعالى- القحطاني إذ قال:
حبّ الصحابة والقرابة سنّةٌ
ألقى بها ربي إذا أحيـانـي
فكـأنما آل النبي وصحبـه
روح يضمُّ جميعها جسدان
فئتان عقدهما شريعةُ أحمدَ
بأبي وأمـي تانك([29]) الفئتان
فئتان سالكتان في سبل الهدى
وهمـا بـدين الله قائمتان
هؤلاء هم أصحاب النبي، وأولئك هم آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت المودة قائمة بينهم أحسن قيام، ومن يدعي خلاف ذلك فهو كاذب مفترٍ عليهم -رحمهم الله تبارك وتعالى ورضي عنهم-، والله أعلم.
([20]) سبق تخريجه ص(13).
([21]) رواه البخاري برقم بألفاظ متقاربة.
([22]) «طبقات ابن سعد» (ترجمة عمر -رضي الله عنه-) (3/275)، «الكامل في التاريخ» (2/331)، «المنتظم» لابن الجوزي (3/112).
([23]) أخرجه الخطيب في «الجامع» (1/188 - أثر 307)، وابن عبدالبر في «جامع بيان العلم وفضله» (1/514 - أثر 832) وقال الأخير قبل كلام زيد -رضي الله عنه-: «وزاد بعضهم في هذا الحديث»، ثم ذكر كلام زيد في رده لابن عباس -رضي الله عنهما-، ثم ذيَّل ابن عبدالبر هذا الكلام فقال: «وهذه زيادة من أهل العلم من ينكرها».
([24]) رواه البخاري.
([25]) رواه البخاري.
([26]) سبق تخريجه بمعناه (ص13) .
([27]) المزي في «تهذيب الكمال» (1/469)، واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (2467).
([28]) «شرح أصول الاعتقاد» (2465)، و «الشريعة» للآجري (1856-1857).
([29]) تان: اسم إشارة للمؤنث، والكاف للخطاب.
المصدر/ شبكة المنهاج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق